كسر الذراع اليابسة- طوفان الأقصى وتحديات جيش الاحتلال

بعد مرور أكثر من عام على المواجهات المحتدمة مع قوات الاحتلال، شهدت تكتيكات المقاومة الفلسطينية تحولاً ملحوظاً. ففي كل منعطف جديد، عمدت المقاومة إلى ابتكار أساليب هجومية متنوعة. ففي الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر/كانون الأول، تصاعدت وتيرة العمليات التي شملت استخدام السكاكين، وتنفيذ عمليات اختراق أمنية، وتفجير الأحزمة الناسفة، بالإضافة إلى ترسانة الأسلحة التقليدية التي لازمت المعركة منذ بداية العدوان.
وفي المنطقة الشمالية من قطاع غزة، التي حولتها "خطة الجنرالات" إلى أرض قاحلة، نجحت المقاومة في تحويلها إلى ساحة "لصيد الثعابين". فالأرض المباركة لن تخون أبناءها المخلصين. وفي ظهور سريع، قدم أبو عبيدة إيجازاً حول حصيلة الجولة، مشيراً إلى "بطولات المقاومين الملهمة" التي تمثل مصدر فخر لكل أحرار العالم، متحدياً العدو أن يكشف عن خسائره الحقيقية.
فجيش الاحتلال، الذي لطالما تباهى بقدرته على حسم المعارك بسرعة، لم يعد قادراً على تحقيق ذلك. فتلك الانتصارات الخاطفة أصبحت من الماضي، بعد أن ولدت المقاومة لكي تردع "الردع" وتقهر الجيش الذي زعم أنه لا يُقهر.
الذراع اليابسة
"الذراع اليابسة" هي ترجمة دقيقة للتعبير العبري "زروع هيابشة"، وهي صفة تطلق على جيش الاحتلال، في إشارة إلى صراعه المنتصر مع الجيوش العربية، التي كانت في أغلب الجولات سهلة الانكسار وسريعة الاستسلام.
فمنذ نكبة عام 1948 وحتى هزيمة يونيو/حزيران 1967، كان الجيش الصهيوني قادراً على تحقيق الانتصار في حروبه الخاطفة. ولكن المقاومة الفلسطينية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن "الذراع اليابسة" يمكن أن تُكسر، وتلك حقيقة من حقائق طوفان الأقصى التي لا يختلف عليها اثنان.
لا يخفى على أحد أن المشروع الصهيوني هو مشروع "إحلالي استيطاني"، قام على القدرة الفائقة على اختراق القرارات الدولية، وترسيخ حالة العسكرة الدائمة. فليس من المستغرب أن يتزامن بناء دولة الكيان مع إعلان رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك، ديفيد بن غوريون، عن ولادة الجيش الصهيوني في 26 مايو/أيار 1948. وقد أثبت هذا التزامن بجلاء أن العسكر هم الركيزة الأساسية للمشروع الصهيوني، وأن العنف يمثل "سمة جوهرية" في هذا الكيان الطارئ على المنطقة.
لقد وصف هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، الفكرة الصهيونية بأنها "فكرة استعمارية". لذلك، كان من الطبيعي أن يحمل جيشها خصائص الجيوش الاستعمارية في بنيته، وفي أيديولوجيته، وفي أدائه القتالي، وأن يعكس على أرض الواقع الأساليب الكولونيالية في إخضاع الشعوب وقمعها.
فلا عجب إذن أن يتأسس الجيش الصهيوني من الرماد المتصاعد من الانتداب البريطاني في فلسطين، ومن دخان المعارك الضارية في الحرب الحاسمة بين العرب والعصابات الصهيونية عام 1948. وإذا أضفنا إلى تلك الطبيعة الاستعمارية الوجه الاستيطاني البشع للمشروع الصهيوني، فإننا نفهم جيداً حقيقة العسكرة التي يتبناها هذا الكيان.
فالمجتمعات الاستيطانية بطبيعتها مجتمعات عسكرية، وذلك على اعتبار أنه "لا يمكن تحقيق الأسطورة الاستيطانية إلا بقوة السلاح". وأمام المخاوف الأمنية المتزايدة والشعور الدائم بالتهديد، فإن دولة الكيان غالباً ما تبقي على جاهزيتها العالية للردع، بالإضافة إلى حالة التعبئة العامة والاستنفار المستمر. وهو ما أدى إلى عسكرة الدولة والمجتمع على حد سواء، فولدت "الأمة المسلحة" كما يصف الإسرائيليون أنفسهم.
وهكذا، وعلى امتداد سبعة عقود أو يزيد، بنت دولة الكيان جيشاً من أعتى الجيوش المحترفة في العالم، ليكون بمثابة القوة الضامنة لوجودها. وخلال جولات الصراع المتعددة مع الجيوش العربية، كان هذا الجيش الأقدر على بدء المعارك وعلى إنهائها وفقاً لمصالحه.
جولات الصراع السابقة
بدأت أولى جولات الصراع من الحروب العربية الصهيونية مع نهاية الانتداب البريطاني عام 1947. فقد واجهت العصابات الصهيونية الجيوش العربية الضعيفة في حرب أطلق عليها الصهاينة اسم "حرب الاستقلال"، ولكنها في حقيقة الأمر كانت "حرب النكبة". ورغم فداحة النكبة، فإن التاريخ سيظل يحتفظ بذكرى بعض العسكريين العرب الذين سطع نجمهم في تلك الفترة، مثل المجاهد البطل عبد القادر الحسيني.
انتصرت العصابات الصهيونية على الجيوش النظامية العربية من خلال العمليات العسكرية المباشرة، وعبر المؤامرات الدولية الخبيثة. وكانت دولة الكيان هي الثمن الباهظ لتلك الانتصارات. فأصبح يُنظر إلى سنة 1948 على أنها "سنة مقدسة"، وأنها "المصدر التكويني" للكيان. وبعد ذلك، تحولت العصابات إلى ما يسمى "جيش الدفاع".
فقد كان هذا الجيش الوليد أول جيش في التاريخ ينشأ من رحم عصابات القتل والتدمير. وكان من المتوقع أن تتطابق أخلاق هذا الجيش مع أخلاق العصابة التي ولد منها، ليصبح "السلوك العسكري للجنود الإسرائيليين في ساحة المعركة عام 1948 نموذجاً يحتذى به للأجيال القادمة"، على حد قول تشومسكي. أما على الجانب العربي، فقد مثلت تلك الحرب صدمة عنيفة "أطاحت بالعديد من المسلمات السياسية والفكرية القائمة واستبدلت بها أخرى جديدة".
لم يكد العرب يتجاوزون صدمة النكبة حتى حلت عليهم نكسة الدولة القومية. فكانت هزيمة يونيو/حزيران 1967 جولة أخرى في سلسلة الهزائم المتلاحقة. ففي غضون أيام قليلة، انقاد العرب إلى هزيمة قاسية ومذلة.
نجحت الحرب الخاطفة التي شنت فجر الخامس من يونيو/حزيران في إخراج الطيران المصري من الخدمة بشكل كامل، وهو ما حدث أيضاً على الجبهتين الأردنية والسورية. ومع نهاية المعركة، كان جيش الاحتلال قد استولى على أراضٍ جديدة واسعة. فقد خسرت مصر سيناء وقطاع غزة، وفقد الأردن الضفة الغربية والقدس، وخسرت سوريا هضبة الجولان. وبذلك وسعت دولة الاحتلال من عمقها الإستراتيجي.
وقد أدى هذا الحدث الجلل إلى تغيير كبير في واقع العرب، الذين استوطن قلوبهم شعور دائم بالهزيمة واليأس. فانهارت دولة المخابرات العربية، وانهارت معها الديمقراطية الاجتماعية. وكانت الهزيمة هي المقابل الموضوعي لدولة القهر العربي ومواطنيها المقهورين. ومن خلال تلك المعارك السهلة، اكتسب الجيش الصهيوني سمعة "الجيش الذي لا يقهر".
العقيدة القتالية
وعلى الرغم من الانتصار الجزئي الذي تحقق في حرب العبور عام 1973، فإن الصهاينة ظلوا يتحكمون في المبادرة الميدانية. وقد تشكلت العقيدة الأمنية لدولة الاحتلال في ضوء هاتين الحربين، وهما الحرب التي سببت لهم الهزيمة، والحرب التي حققوا فيها نصراً جزئياً. وتقوم هذه العقيدة على "تعزيز قوة الردع والإنذار الإستراتيجي، ثم سرعة الحسم".
ولكن بعد حرب يوليو/تموز 2006، توصلت المراجعات الصهيونية إلى ضرورة الاعتراف بنهاية الحروب الشاملة. فقد أصبحت المواجهات المحدودة وغير المتكافئة مع تنظيمات غير حكومية (مثل حزب الله وحماس وغيرهما) هي النمط السائد، بينما تضاءلت أهمية الحروب الشاملة بين الدول.
وفي كل الأحوال، لقد أيقظت تلك الهزائم والنكبات روح المناظرة والنقاش حول الدولة والسياسة في السياقات العربية. وجرى الاشتباك الأيديولوجي حول قضايا الحرية والتحرر والمقاومة وسبل النهوض بعد الهزيمة. فانبثقت مقاربات جديدة في إدارة الصراع.
طوفان الأقصى
لقد تحولت المواجهة العسكرية منذ الانتفاضة الثانية من صراع بين الأنظمة إلى صراع بين التنظيمات. أي من صراع مع الجيوش النظامية إلى صراع مع المقاومة. وهو ما يعني التحول من الحروب النظامية إلى الحروب غير المتكافئة.
وقد شهد قطاع غزة على وجه الخصوص عدة جولات من الصراع. فمنذ عام 2008 حتى عام 2023، تكررت هذه الجولات. فكانت معركة "الفرقان" عام 2008، ومعركة "حجارة السجيل" عام 2012، ومعركة "العصف المأكول" عام 2014، ومعركة "سيف القدس" عام 2021. ثم جاء طوفان الأقصى ليقلب الموازين. وعبر كل هذه التراكمات، كانت المقاومة تبني حالة من الاستعصاء والصمود الأسطوري.
لقد كان طوفان الأقصى هو الخلاصة والتعبير الأمثل عن هذا الاستعصاء. وفي هذا الطوفان، واجهت المقاومة الغرب وقاعدته المتقدمة، في ظل صمت عربي يرقى في بعض جوانبه إلى المشاركة في المجهود الحربي لجيش الاحتلال. ومع ذلك، كانت المقاومة في غزة قادرة على إلحاق الأذى بالعدو وإثخان قواته. وكانت هذه الجولة الجديدة هي الاختبار الأصعب والأكثر قسوة لجيش الاحتلال.
وعلى الرغم من الاختلال الكبير في موازين القوى، فإن المقاومة قد جمعت إلى قوة الحسم العسكري، الوعي الاستخباراتي العميق والقدرة الفائقة على قراءة المرحلة. إضافة إلى معرفة غير مسبوقة بالعدو، سهلت عليها التخطيط والتنفيذ بكفاءة عالية.
وحين بادرت بالهجوم المباغت، فقد حرمت جيش الاحتلال من الاستفادة من امتياز الضربة الأولى. فجاءته المقاومة براً وبحراً وجواً، فقتلت وأسرت وشردت واستولت، وخاضت معارك ضارية في مدن الغلاف، حتى بدا جيش الاحتلال في حالة من الشلل التام والارتباك الشديد. وحين حاول استعادة المبادرة، كانت المقاومة قد سبقته بخطوات.
ولم تكن الحرب البرية أقل قسوة على الصهاينة. فقد دخل جيش الاحتلال الحرب في حالة من الانهيار المعنوي والتخبط. وأمام الفشل الاستخباراتي الذريع، لم يستطع أن يبني عملياته العسكرية بنجاح، فغرق في رمال غزة. وحين التقى الجمعان، كانت كل مدينة في القطاع دولة بحد ذاتها وجيشاً مستقلاً. فاستحالت غزة بأكملها إلى أرض ملتهبة وجحيم لا يطاق.
فالمقاوم يظهر فجأة كالبرق الخاطف، وينفذ مهامه القتالية ببراعة باستخدام القذائف أو العبوات أو الألغام، فيثخن في العدو ويدمر آلياته، ثم يختفي عن الأنظار. وفي كل هذا الأداء البطولي، كان يحرم المحتل من تحقيق أهدافه المشؤومة.
وفي لغة الأهداف، كانت المقاومة أكثر واقعية وعقلانية. فقد ذهبت أهداف نتنياهو أدراج الرياح، لأن الحرب على غزة هي "حرب لا يمكن الفوز فيها". في حين كان "طوفان الأقصى" قادراً على تفكيك وفضح سردية الاحتلال الزائفة، وإنهاء التسويق السياسي لمظلوميته التاريخية المزعومة، وإيقاف حالة التدهور العربي. والأهم من كل ذلك، كسر "الذراع اليابسة" الذي طالما تباهى به الاحتلال.